الجمعة، 17 فبراير 2012

ثمرات الثورات

ثَمَرَاتُ الثَّوْرَاتِ
إبراهيم الدميجي

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

الحمد لله الذي لا منتهى لفضله، والشكر له على جزيل نعمه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه, وبعد:

فالكلام عن ثورات ربيع العرب المسلمين قد يكون سابق لأوانه, لأنها لا زالت فتيّة ولمّا تتضح جميع سمات مُحَيّاها، فعمر الثورات بالسنين وليس الشهور, لكن مقالي منصبّ هنا على ما ظهر من ثمراتها حتى الساعة, سائلاً ربي التوفيق.

تُحمد الثورات أو تذم بعد عرضها على ثلاثة أمور:


الأول: الوضع الَمُثورُ عليه بحسب قربه وبعده عن الحق والقيم العدلية, وهو مبرر الثورة _إن وجد_.
الثاني: حقيقة الثورة مبنىً ومعنى، والغوص في التراتيب والمضامين الثورية بغض النظر عن شعاراتها.
فما كُلّ دارٍ أقفرت دارةُ الحِمى * * ولا كل بيضاء الترائبِ زينبُ
الثالث: مآلاتها وما ترتب عليها, وإن كان هذا قد تُوردُ عليه مسألة اختطاف الثورة, لكن عند التحقيق نجد أن حفظ مسار الثورة من أولويات مضامينها, فهو راجعٌ إليها, والتفريط في مكتسباتها راجع عليها باللوم في المقام الأول, فمِنْ أَوْلَى مسؤولياتها إيقاف دولاب تأجيج ثورة أخرى رديفة أو غريمة أو مضادة, إذ لابد من حدّ معين تقف عليه, وإلا أكلت نفسها أو أُكِلت من ثورات أخر.

معاشر الأحرار:
في هذه الأيام الجميلة أرقلت لساحات الحرية رواحلُ الأحرار, وانتشت بالشّمّم والإباء نفوس الكرام, ورفرف السرورُ والحبور على شفاه ووجوهِ النبلاءِ ونفوس الصالحين المصلحين, وامتلأت بالراحة والسعادة قلوبٌ طالما أنهكتها سنيّ المهونة وعقود المذلّة.
خليلي لا والله ما أنا منكما * * إذا عَلَمٌ من آلِ ليلى بدا ليا
الثورات وتوابعها الزلزالية سياسياً وعقَدياً وفكرياً واقتصادياً وأخلاقياً وعِلمياً واجتماعياً وحربياً؛ غيرُ خارجة عن سنن الله الكونية ونواميسه الخَلْقِيّة, وهناك نماذجُ تاريخية مشابهة لها من بعض الأوجه, لكن شتّان بين ثورة تكبير وتهليل وتوكل واستغاثة وتوبة وبرّ وصلة وإيثار ونصح وتعاون على الحق, قد خرجت من الجوامع بعد الجمع, وبين ثورة ثارت على دينها أولاً, ثم ثنّت بسياسييها وإقطاعييها ثانياً!

الثورات بنكهة ربيع العرب لها خصائص وسمات تميّزُها عن غيرها، فالعرب لهم فضائلُ جُمْلَةٍ ومظنّة _لا أفرادٍ وتعيين_ وإن رَغمَ الشعوبيون، ولك يا منازل في القلوب منازل.

الثورات الإسلامية تقول بملء فيها: الثورة الفرنسية لم تمرّ من هنا، بل ثوراتنا هي من ستمرّ على سائر الشعوب المستعبدة للطغاة وتلهمهم سلمها وحربها، فسِلْم إلى آخر المدى, لكن إن خشينا الاستئصال فالجهاد بالجلاد, فما حيلة المضطر إلا ركوبها.
إذا المبادئ لم تُحـْـمَلْ مكـرَّمةً * * على الرقاب فلا تستعجلِ الإربِ
الثورة الفرنسية مختطفة من الماسُون الصهيوني لكن الإسلامية (وإن تشأ فسمّها العربية مهدُ الإسلام الأول حضانة ونشراً ومهداً وموطناً) على الضّدّ من ذلك, بل كان أول حربها على خداع الصهاينة بأذنابهم.

شعار الثورة الفرنسية (أم الثورات الغربية) يقوم على ثلاثة أسس: الحرية والإخاء والمساواة, لكن الإسلامية ضبطت هذه الثلاث بردّها إلى محكمات القرآن, وظهر ذلك جلياً باختيار الشعوب المسلمة لمن قال: القرآن دستورنا, لا لمن ألقاه وراءه ظهرياً، وقد ظهر خَسَارُ أهل النفاق والتغريب واللبرلة, الذين زعموا أنهم انتصروا! وما مثلهم إلا كذبابة طُرِدت من خلية نحل فرفعت عقيرتها: إنِّي مَلِكَتُها!

الشعوب في الميدان هي السلطان لا السلطان، فإن رفع بندقيته عليها حار عليه نارها, وارتد على صدغه رصاصها، وإذا أحسن دعاة الحق ضبط دفة المسيرة فاحْدُ لها تَسِر, فحيث حلّت رتعت في ربيع وحيا.

والإيمان محفوظ في جملة أهل الإسلام بحفظ الله تعالى للقرآن، وروى الشيخان من حديث المغيرة رضي الله عنه مرفوعاً:"لا يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". وستتغير بإذن الله موازين كثيرة, كلّتْ من تطفيف الكيل وغبن المشترين, سواء في المحافل الوطنية أو الإقليمية أو الدولية, وإن غداً لناظره قريب.

وإنّه ليحسن في هذا الزمان نشر ثقافة التفاؤل بنصر الدين في الناس فقد همدت هممهم من طول سِنِيِّ الإحباط السياسي والاقتصادي والحربي.

فمن تلك الثمار:

إزاحة الطواغيت المعبّدة لغير الله تعالى, وقد أرانا الله العبرَ في سقوطهم المدوي, وكال لهم بالصاع الوافي, وجزاهم من جنس أعمالهم, وقرَأنا آية آل عمران كأنما أُنزلت الساعة: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء" (آل عمران: 26).
ألا كل حي هالك وابن هالك * * وذو نَسَبٍ في الهـالكين عريقُ
فلا تحسب الدنيا إذا ما سكنتها * * قـراراً فما دنياك غير طريق
ومن الثمار: علّمتِ المستضعفين؛ أنَّ ما سُلبُ بالقوة لا يُنتزع إلا بمثلها.
ومن يَحْلُ تِطلاب المعالي بصدره * * يجد حُلْوَ ما يُعطاه من غيرها مُرَّا
ومنها؛ قَصْرُ يدِ أهلِ الكتاب (العدوّ التقليدي لأهل الإسلام) عن مقدرات الأمة, ومن ثَمَّ قطعُها بإذن الله, فحالهم:
حلفَت لنا أن لا تخون عهودَها * * فكأنّما حلَفت لنا أن لا تَفِي
ومهما حاولوا الالتفاف عليها والاقتيات من ثمرها؛ فإن حَمَلَةَ أمانة الإسلام لهم بالمرصاد, ومن الشواهد إباء المصريون مِنَّةَ المليار الأمريكي الصليبي الذي كان مدخلاً وبوّابة لهم وليّاً لذراع ساسة وعسكر مصر! والثورات المباركة حتى وإن وَهَنَ روّادها أو لم يُوفّقوا في بعض الحسابات والقرارات فإن الزمن بتوفيق الله وإذنه كفيل بمراجعة الأمة لهم, فهي أمة ولودٌ حرّةٌ يقظة, تمرض ولا تموت, وتضعف ولا تسقط, ولا بد لها في كل زمان من قائم لله بحجة, ومبيّنٍ سبيل المحجّة, والتجارب دُروس وليال الظلم والجهل دَروس.
إيهٍ أخا الإسلام فالنصر قادمٌ * * وإن أجلب الكفارُ كل النواديا
ومنها؛ أنها عرّت دولاً على حقيقتها, أتقنت أو فشلت في التمثيل, وجزى الله الشدائد كلّ خير.

ومنها؛ تعرية عدائية الرافضة وأذرعهم العسكرية, وبخاصة حارس إسرائيل المخادع المكشوف حزب اللات، الذي كاد أن يخطف عقيدة المسلمين إبّان حربه الهزلية الهزيلة قبل سنيّات، فانكشفت على بروق الثورات مخالب الضبع تحت جلد الحمل.

ومنها؛ تجلية خطر الفيتو ضد العالم, وارتفاع مستوى السخط والغضب والحنق ضده من قبل الساسة والشعوب, وهذا منذر بزواله بمشيئة الله وإن كان مشوار ذلك طويلاً, لكنها بداية النور في آخر نفق الظلم والجشع والكبر العالمي, وإنما السيل اجتماع النقط.

ومنها؛ بيانُ أهمية القوة الناعمة (الإعلام) في صنع الأحداث أو توجيهها بإبراز جانب وإماتة آخر (وتأمل حال إعلام بعض القنوات في تعاطيها مع الحدث الحقيقي أو المصنوع أو المُبالغ في دولة واحدة هي اليمن؛ كيف أجّج الثورة وضاعف المشاعر وألهب الحماس في صنعاء, وخنس وخرس في صعدة حينما تعرضت لحصارٍ ظالم وقتل سافر) وأَنّ محرر الخبر له دور أساس في تشكيل الحدث التالي-بإذن الله- بتعبئة الجمهور والعامة بل والساسة, عبر ضخّ الرسائل الشعورية واللاشعورية في وريد وذاكرة ومشاعر المتلقين, وتلقينهم عناصر ردّ الفعل عبر تصويره عرْض مطالبهم وآلامهم و وإيهام استشعارهم تمثيله لهم، ومن هنا يُلحّ مطلب الإعلام الإخباري والتحليل الريادي والآنيّ للإعلام الإسلامي .

ومنها؛ إثبات أهمية التوحّد والاجتماع خلف المطلب الجامع, وشاهدُ هذا الميادين الكبيرة والجُمع الهادرة.

ومن ثمراتها؛ سقيُ نبات العزّة في نفوس الأمة المسلمة, واطّراح الخنوع وكسر الخضوع لغير الحيّ القيوم، قال عمر: يعجبني الحُرّ إذا ضِيْمَ أن يقول بملء فيه: لا
لا يدرك المجد إلا سيّدٌ فطنٌ * * لِمَا يشقُّ على السادات فعّالُ
لولا المشقّةَ ساد الناس كلُّهُمُ * * الجـودُ يُفقــــر والإقدام قتّالُ
ومن ثمراتها؛ إدراك كثير من أهل العلم والدعوة ممن كان متردداً حجم الحاجة لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة (الالكتروني والمرئي) وكيف خدم هذا السلاح ما لم يخدمه السلاح! ومن أعظم ثمرات هذه الوسائل بل هي الأعظم بإطلاق؛ انتشار الوعي وتحرير العقول من ربقة التعصّب للمذاهب الرديئة, وإيقاظُ العقولِ وتفتيح الأسماع والأبصار والأفئدة من ركام الخرافة والتقليد الأعمى؛ ككهنوت المتصوّفة, وإلغائهم حريّة النقد والتفكير للمريدين بمقرعة: "كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي غاسِلة!" فأثمر ذلك أجيالَ تخلّفٍ وخرافة, وتسطيحَ عقولٍ وتسفيهَ أحلامٍ وحيرةَ ألبابٍ, وإيغالاً في كفرِ الحُلول والاتّحاد, بَلْه البدع والمحدثات المسلكية!. وكذلك قول الإسماعيلية الباطنية هرباً من كشف حقيقة أكذوبة صحة معتقدهم: لا تسأل فتشك فتكفر!. وكقول المتشيعة المشركة: هذا الولي الفقيه يعلم علم الإمام الغائب الذي يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون! تقدس ربنا في عليائه عما يقولون، وكما يقول بَهَتَةُ الساسة وكذبة أزلامهم: البلادُ في أيدٍ أمينة فنامي يا شعوب ملء الجفون!.

فخرجت _بفضل الله_ جموع الأمّة بالفلاح مسعودة, لتقول: لا إله إلا الله, ولا معبود لنا سواه، لا شيخَ طريقه, ولا سيّد, ولا إمام ولا فقيه، ولِترتفع بصوتها وفعلها ملء السمع والبصر لتقول: محمدٌ عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, لا خير إلا دلنا عليه ولا شر إلا حذرنا منه, وكل الخير في سنته وكل الشر في مخالفته.

ولما خُلّي بين الأمة وإرادتها؛ تبِعت من ينادي بالإسلامِ, ووثقت بمن يرفع مبادئه وشريعته، أيّاً كانت أولوياته وطريقته, بل ذهبت أبعد من ذلك؛ فمن كان يَظنُّ أن سبعة ملايين من أهل الكنانة يصوّتون لمن نادى بعقيدة السلف الصالح والأصحاب الأطهار البررة, تلك العقيدة الصافية التي خالها كثير من الناس غريبة هناك، ولكن بحمد الله فلا يزال في أهلها خير منذ الفسطاط، وإذا صلحت رَحَى عرب هذا الزمان فلا تسأل عن الثمرات الصالحة الناضجة النافعة, وهل أبلغُ من تعطيل غالب قنوات العالم بجميع اللغات أيام زلزال ثورتهم إلا لمتابعتها ورصدها وتقليدها؟!(حتى في اللغة واللهجة كما في أمريكا, بل ومُسمّى الميدان كما في أسبانيا، فَلِأَرضِ الكِنانة اليوم شأنٌ لا كالأيام الخوالي).

لقد مَخَضَ ربيعُنا عن أرضٍ جديدة حقيقة لا حُلُماً, وغَرَّدَ لأحلام جميلة, حرسها الله من قُطاع طريقها ونُزّاع سعدِها, الذين يحوكون خيوط الظُّلْم في حنادِسِ الظُّلَم, ليئدوا وليدَنَا الذي طالما انتظرناه وارتقبْنا هلاله وبدره، فالحمد الله الذي أحيانا لنرى تتابع نِعَمِه، ونَنعم بمزيد فضله ومننه.
أَعُدّ الليالي ليلةً بعد ليــلةٍ * * وقد عشت دهراً لا أعُدُّ اللياليا
وأخرج من بين البيوت لعلّني * * أُحَدِّثُ عنك النفسَ بالليل خاليا
إذا سرتُ أرضاً بالفضاء رأيتُني * * أصانع رحلي أن يميلَ حِياليا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن * * شِمالاً يُنازعُني الهوى عن شِماليا
ألا يا حمامَيْ بطن نعمان هِجْتُما * * عــــــــــليّ الهوى لمّا تغنّيتُما ليا
وأبكيتُماني وسط صحبي ولم أكُن * * أُبالي بدمع العين لو كنت خاليا
ذكت نار شوقي في فؤادي فأصبحت * * لها وهَجٌ مستضرمٌ في فؤاديا
خليليّ ما أرجو من العيش بعدما * * أرى حاجتي تُشرى ولا تُشترى ليا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما * * يظُنّان كلّ الظنّ أن لا تلاقيا
وإن أردت برهان ذلك؛ فانظر في رَحِم الشام مهاجر إبراهيم ومرابع النبيين, وتذكّر حديثَ خيرِ المرسلين بل أحاديثه في بيان فضل الشام وشرفه ومقاماته العالية في الدين والجهاد في ملاحم آخر الزمان الذي آذنت شمس مغيبه، واسترجع حديثه بأبي هو وأمي ونفسي في شأن الغُوطة وجندها الصالح وأنت ترى رجم الصفيونيين النصيرية البشع لها ولأكناف بيت المقدس كحمص الجهاد وغيرها, وتذكر حديثه العاطر في وصف من ذكر أنه أولى الناس به ابن مريم عليه السلام ونزوله شرقي دمشق على المنارة البيضاء ووصيته بجند الشام وأجناده وخيرية أهله في آخر الزمان، وَقِفْ وتأمّل واعتبر وتفكّر: هل دارَ بأدنى خلدك وأَبْعَدِ حدْسك أن ترى نفس الجيل الذي كان بالأمس مزمّراً مطبلاً غافلاً لاهياً حتى لا تكاد ترى في المساجد إلا الشيب، مغلوباً على أمره, مسلوباً ضروراته فضلاً عن حاجاته, فإذا به اليوم يسطّر أروع الكلمات على جبين التاريخ؛ بالتهليل والتوحيد والتكبير والصلاة والصلة والبر والإيثار والجهاد والصبر والمصابرة والمرابطة والتواصي بالحق والصبر والمرحمة, والحرص على السنّة والحجاب, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوبة والأوبة؟! الله أكبر، هي وربّي إرهاصاتٌ لأمورٍ عظيمة جدّ عظيمة، أَتُرَى الله يضيع صبرهم وجهادهم واستغاثتهم وتوكلهم، كلّا ورب محمد صلى الله عليه وسلم، فلعلّها تباشير نبوءته بفتح بيت المقدس, ولو بعد عدةٍ أجيالٍ, وما ذلك على الله بعزيز, وفي المسند بسند صحيح"أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". ولمّا كان المولود كبيراً عظيماً اشتد الطّلقُ على الوالدة، وازداد النزف الطاهر، ولا سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون" (النساء: 104) علام نبكي شهداءنا والله حسيبهم ولا نزكيهم فعند الشيخين مرفوعاً: "ومن قتل دون ماله فهو شهيد" فما الظن بمن كان قتله للدين؟! وللنسائي والترمذي: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد".

أَنَضُنُّ بالجنان عنهم أم بهم عنها؟! يا قومي: الأمر أعظم وأكبر وأبعد مما يتصور بعضنا: "ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم" (محمد: 4) ونصر المبادئ غاية العقلاء, حتى وإن هلكت الأجساد، فما عند الله خير وأبقى.
إذا عزّ ديني واستبيحت جوارحي * * فأين مقـــــــام العزّ إلا مقاميا؟
قيل للشافعي رحمه الله: أخير للمؤمن أن يُبتلى أم يُمكّن؟ فقال ذلك العالم الحكيم الرباني: لا يمكن حتى يبتلى. حُسم الأمر وقضي الشأن "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" (البقرة: 214) ولما شكا خبّاب الضّيمَ والنَكال والأذى لنبي الله صلى الله عليه وسلم, قال وهو محمرّ الوجه" لقد كان من كان قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه, ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله" رواه البخاري.

وبالجملة؛ فلا بد من التمرّس والدراسة لفقهِ التّمكين في الأرض, وشرطُه وجِماع أمره لمن كان له قلب:"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور: 55)اللهَ اللهَ بالتوحيد يا أيها الثائرون, والسُّنّةَ السُّنةَ معاشر المجاهدين, وإنكم لن تغلبوا عدوّكم بكثرة عُدد وعَدَدٍ وعتاد, بل بصدق التعلّق بالله تعالى, والانقطاع عن الالتفات للخلق, مع بذل كل ممكن من الأسباب المشروعة، فالتفات القلب إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسباباً قدحٌ في العقل, والإعراض عن الأسباب قدحٌ في الشرع, كما نص على ذلك أئمة الإسلام كابن تيمية وابن القيم رحمهما الله, وأعظم الأسباب على الإطلاق صدقُ التوكل وصحةُ اليقين وإحسان الظن بالله, وحسنُ المعتقد وصدقُ الاتّباع، ولا يغرُرْكُم جَهَامُ المُخَذِّلِين المخذولين, ولا خُلّبُ الفجرةِ والمشركين, فمن توكل على الله كفاه ومن اعتصم به حفظه وآواه, ومن آوى إليه فقد آوى إلى ركن شديد.
وإني لأدعو الله حتى كأنما * * أرى بجميل الظن ما الله صانعُ
هذا ومما يجدر به التنبيه، ولا يخفى على الفطِنِ النبيهٍ؛ وجوب رعاية حسن التدبير وحكمة التصرف, سواءً في الراعي أو الرعية، فجيلُ اليوم سبق بوعيه وتوقه وشوقه واندفاعه أجيالاً سبقته, وهذا على ما فيه من بشارة إلا أنه يحمل في طيّه النّذارة! فكما أنّ حماس الشباب مطلب, وتوقُهُم للتغيير للخير فَضْيلةٌ, إلا أن الحلمَ والأناةَ وحكمةَ الشيوخِ الذين عرَكتهم الأيام بثفالها وغذّتهم التجارب بلَبانها مطلبٌ ألَحّ وفضيلة تكملُ تيك الفضيلة إذ ليست عن ظِلّها بمعزِل، وكلا الأمرين مهم، والفتن عميّة, وما يصلح في زمان ومكان ليس بالضرورة صالحاً لغيره, فمن حكمة المولى سبحانه أن لكل مرض علاجاً من جنسه, ولكل أدواءِ أرضٍ ترياقاً من موطنها، والفيصل الشريعة، وكل أمر يُقدّر بقدره، وليس كل إنكارٍ خروجاً, كما أنْ ليس كل طريقة بقصدِ الإصلاح سائغة "وما كان ربك نسياً" (مريم: 64) "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً" (النساء: 83) والفتن خطافة والقلوب ضعيفة، وإذا أقبلت الفتن لم يرها إلا العلماءُ, فإذا أدبرت وطرحت صرعاها علمها العامّة ولكن بعد خراب البصرة! ومن لزم غرْزَ ورثة الأنبياء أفلح وأنجح.

هذا وإنّ الرّزانةَ والهدوء والرويّة والحلم قد حضرت في ثورات العرب بقوّة بحمد الله, مع أن العادة غيابها عمّا شابهها ظاهراً من الثورات، وإن كان لا يخلو المجموع من فئات تطير مع كلّ مطيِّر، بحسن نية وطيب قصد أو بغيرها,لكن غفلوا عن أن العاطفة والدموع ليس بشيء في ميزان العدالة والحق.
وما ذرفت عيناكِ إلا لتَضرِبي * * بسهمَيْكِ في أعْشار قلبٍ مُقَتَّلِ
والتغيير في نفسه ليس بجيد إلا إن كان للأصلح والأخيَر، فالاستقرار والسكون مركب الأمن, وحُبُّ التغيير جبلّة إنسانية كما نص على شيخ الإسلام. والجادّة: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11) وقوله تعالى:"ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم" (الأنفال: 53).

وللخائف الوجل من آثار الثورات نقول: لك الله! أحسن الظن بالأمة ولا تقل هلك الناس, واعلم أنهم يقومون بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة الخيريّة لأمة أحمد صلوات ربي وسلامه عليه, ومن ذلك المطالبة بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض, والمنادية بتحرير العباد من ربقة العبودية لغير الله تعالى, كما قال عمر ورضي الله عن عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ "وتأمل المبدأ الأول في لائحة حقوق الإنسان الذي يقول: إن جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق" (القرار:a_d_3217 ) فلا ظلم في الإسلام, فالمسلم عزيزٌ بإسلامه والذمي محفوظة كرامته وإنسانيته وحقوقه, إنما يُدعي للحق والهدى برفق وإحسان.

والمؤمن كيّسٌ فطن, وليس بالخِبِّ ولا الخبّ يخدعه, وقد لاذ بأضالع الثورات فئامٌ ليسوا منها وليست منهم, أنما غرضهم ركوبُها وتوجيهُها حسب شهواتهم وأهوائهم وأغراضهم فلنكن على حذر وأُهْبةٍ.

كما يجب ويتأكدُ صدقُ الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة النّصوح والأوبة الصادقة "ومن لم يتب فؤلئك هم الظالمون" (الحجرات: 11) فلا غِنى لأحدٍ عن التوبة, فهي أولى المنازل وأوسطها وآخرها, كما قاله الإمام ابن القيم, كذلك تصفيةُ النّيّةِ من شوائب حظوظ النفس وبقايا الطمع، وكل شيء لغير وجه الله يضمحلّ، وسهر العيون لغير وجهك ضائع.

ولا بد من الوفاء ثم الوفاء ثم الوفاء.
قالت لِطيْفِ خيالٍ زارها ومضى: * * بالله صفهُ ولا تنقصْ ولا تزِدِ
فقال: خلّفْتُهُ لو مات من ظمأٍ * * وقلتِ: قفْ عن ورودِ الماء لم يَرِدِ
قالت: صدَقْتَ، الوفا في الحبِّ عادتُهُ * * يا بردَ الذي قالتْ على كبدي
كما أنّه من المتعيّنِ مراجعة المسيرة وتنقيحها وتنقيتها, وعرضها دوماً على محكمات الدين ومسلمات الملة, ومن لم يُوقن أن في الوحي كفاية عما سواه فلا كفاه الله, ومن ليس له فيهما غُنية فليس له فيما سواهما غُنية.
قَطَاةٌ غرّها شَرَكٌ فباتت * * تُجاذبُه وقد علِق الجناحُ
فلا في الليل نالت ما تمنّت * * ولا في الصّبح كان لها برَاحُ
وعلى من مُكّن لهم في الأرض أن يُوسعوا صدورهم للنقاش والاختلاف, فالجميع في سفينة واحدة, بيد أنهم في دفّتها. "قال عسى ربكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" (الأعراف: 129) "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" (يونس: 14).
لعل عَتْبَكَ محمود عواقبه * * ورُبَّما صحّتِ الأجسام بالعللِ
والمحاسبة غداً على قدر المسؤولية اليوم, فما أعظمها من أمانة, وما أثقله من حِملٍ, والمُوَفّق السعيد من وفّقه الله, والشقي المخذول من وكله الله إلى نفسه أو خلقه.
غداً تُوَفّى النّفُوس ما كسبتْ * * ويحصُدُ الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم * * وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين وانشر أمنك وسلامك وعافيتك في بلاد المسلمين, وأصلح دينهم ودنياهم, واهد شعوبهم وحُكّامهم واغفر لحيهم وميتهم, وعجّل بفرجك وتنفيسك ونصرك وتأييدك لأهل سوريا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين, وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.
 
إبراهيم الدميجي
15/ 3/ 1433
@aldumaiji

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق